على عدة مستويات ومقاربات، شكلت “عاصفة الحزم” التي استهدفت مواقع الحوثيين وقوات حليفهم المخلوع علي عبد الله صالح تغيرا نوعيا في إستراتيجية دول الخليج، لجهة التحول من سياسة احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة إلى سياسة الحسم والمواجهة، متجاوزة بذلك مرحلة الانكفاء السياسي والإستراتيجي إلى محاولة إنشاء منظومة إقليمية تفرض إيقاعها على مجريات الأمور وسياق الأحداث المتلاحقة.
وقد جاء تبني مجلس الأمن الدولي لمشروع القرار الذي قدمته دول مجلس التعاون الخليجي بشأن اليمن ليؤكد صوابية هذه الإستراتيجية وقدرتها على تحقيق إنجازات سياسية في زمن قياسي، بعد أن أظهرت “عاصفة الحزم” قيمة الحضور العربي، وما يمتلكه هذا الحضور من قوى كامنة، تعيد بها رسم التوازنات الإقليمية في مواجهة التفرد الإيراني واستثماره في أخطاء السياسة الأميركية بالمنطقة وفرض سلطة أتباعه بقوة العنف والترهيب.
وإذ أعلنت دول التحالف انتهاء عملية “عاصفة الحزم” وبدء عمليات “إعادة الأمل” بما يشمل ذلك من عمليات الإغاثة والدعم للمقاومة الشعبية، مع إمكانية استمرارية الأعمال العسكرية “وفق أطر مختلفة ضد أي تهديد من الحوثيين سواء من الداخل أو الخارج”، فإنه بات بالإمكان ملاحظة ما أنجزته تلك “العاصفة” من مكاسب سياسية أعادت شيئا من التوازن في المعادلات السياسية والإستراتيجية في المنطقة.
“لعل أهم إنجازات عاصفة الحزم هو إحداث الخلل والتأثير المباشر على المشروع الإيراني المتجدد، الطامح إلى إحلال “نظام إقليمي جديد”، كانت إيران تأمل في الانتهاء من بسط نفوذها مع إنجاز الاتفاق النهائي حول ملفها النووي مع الغرب في نهاية يونيو/حزيران المقبل”
ولعل أهم تلك الإنجازات هو إحداث الخلل والتأثير المباشر على المشروع الإيراني المتجدد، الطامح إلى إحلال “نظام إقليمي جديد”، كانت إيران تأمل في الانتهاء من بسط نفوذها مع إنجاز الاتفاق النهائي حول ملفها النووي مع الغرب في نهاية يونيو/حزيران المقبل.
ويشمل هذا “النظام” بناء قوات ردع بديلة عن الجيوش النظامية، أساسها النهج “المليشياوي” والولاء الطائفي، من عناصر “حزب الله” والشبيحة والحشد الشعبي والحوثيين، تمكنهم إيران من حيازة مناطق إستراتيجية على الخريطة السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، بحيث تشكل تلك “الأذرع” بتمددها قوسا جغرافيا يمتد من الساحل السوري مرورا بالعراق ووصولا إلى شط العرب والخليج العربي، يقابله التمدد الحوثي في اليمن، وهو ما يعني محاصرة دول الخليج العربي في حدودها الشمالية والجنوبية.
يضاف إلى ذلك ما حققته “عاصفة الحزم” وبسبب توقيتها الدقيق والحساس، في وقف عملية المقايضة بين مشروع القنبلة النووية ومشروع التمدد الإقليمي، وهو نفس المشروع المؤثر على الوحدة الثقافية في المنطقة منذ انطلاقته، مع استلام الخميني للحكم في طهران، وذلك بسبب عدم تجانس هذا المشروع بين ظاهره الذي يدعي تبنيه الدفاع عن القضايا المحقة لشعوب المنطقة -القضية الفلسطينية- وجوهره الطائفي الذي يدفع بالمال والسلاح والرجال من أجل تعميق مستوى الخلافات وصراع الهويات، التي تؤدي بدورها إلى حدوث التجزئة السياسية وزيادة “الطائفية” في العالم العربي، وقد شهدنا آثار هذا المشروع على مجريات الأمور في العراق، بعد احتلال الأميركي عام ٢٠٠٣، وفي سوريا بعد العام ٢٠١١ واليمن بعد العام ٢٠١٤.
من جانب آخر أظهرت “عاصفة الحزم” ضعف المشروع الإيراني وهشاشة مرتكزاته القائمة على الأوهام الطائفية المؤدلجة، مثلما أظهرت “العاصفة” إمكانية محاصرة حلفاء طهران وتعزيز قوة مناهضيها، وإطلاق المقاومة الشعبية غير الطائفية في وجهها، إلى جانب الكشف عن أسس السياسة الإيرانية المبنية على استغلال التناقضات الاجتماعية-السياسية الموجودة داخل بلدان المنطقة، وهي تناقضات طبيعية يفرزها صراع المصالح والنفوذ ضمن كل المجتمعات، إلا أن السلطة الإيرانية تحاول استغلال واستثمار هذا التناقض عبر إشاعة نمط من الخوف والارتياب في جنبات بعض المجتمعات الأهلية “الشيعية”، ودفعها للقيام بحروب بالوكالة عنها.
وفي هذا الاتجاه يمكن القول إن “عاصفة الحزم” نجحت في إظهار “نظام الملالي” نظاما عاجزا عن حماية أتباعه ومناصريه، مؤكدة على أن المظلة الشرعية والقانونية الحامية لكل الأذرع الإيرانية وتوابعها في المنطقة هي الدولة الوطنية.
وفي ظل التفاعلات السياسية التي أحدثتها عاصفة الحزم على المستوى الإقليمي، تظهر تأثيرات العاصفة على المستوى الدولي، ولعل إنجازها الأكثر وضوحا في هذا المضمار هو إمكانية تحرير النظرة الأميركية وسياستها من أوهام وأسطورة السطوة الإيرانية على المنطقة، وما يحاك حول القدرة المدهشة لطهران في لعب دور “شرطي المنطقة”!، تلك القدرة التي توصف في بعض أوجهها بقوة “احتلال” من قبل فئات عريضة من شعوب المنطقة، كما في بعض المناطق السورية والعراقية.
وفي هذا السياق، فتح تحالف “عاصفة الحزم” باب التفاعل مع السياسة الأميركية الجديدة القائمة على الانكفاء عن المنطقة، بتقديم التحالف لنفسه قوة قادرة على سد الفراغ الذي سيخلفه الانكفاء الأميركي، وذلك بتمكين دول المنطقة وقواها المجتمعية من توفير مظلة الحماية لمصالحها، إلى جانب تخليص بعض القوى المحلية من أوهام المراهنة على التدخل العسكري الأميركي المباشر من أجل نصرة ودعم قضايا المنطقة.
“يتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد عاصفة الحزم إعادة تصويب مسارات التفاعل بين مصالح الدول على قاعدة من التوازن والواقعية، يتم خلالها التفريق بين القوى الإسلامية ذات الممارسات الإرهابية المتطرفة والدور الفاعل والواضح لبعض التيارات الإسلامية المعتدلة في تكريس الاستقرار “
فالوقائع أكدت على أن التدخل الأميركي والسياسات التي مارستها واشنطن قامت بتقديم خدمات كبيرة “للمشروع الإيراني” حيث سطرت تلك السياسات “بوش-أوباما” وبجريرة “محاربة الإرهاب” العديد من الويلات والمآسي على دول وشعوب المنطقة، وهي ذات السياسة التي دفعتها شراهتها البراغماتية إلى التودد من إيران وحكامها، بعد سنوات طويلة من وصفها “بالدولة المارقة”، وفق تعبيرات الخطاب السياسي الأميركي.
لذا يتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد عاصفة الحزم إعادة تصويب مسارات التفاعل بين مصالح الدول على قاعدة من التوازن والواقعية، يتم خلالها التفريق بين القوى الإسلامية ذات الممارسات الإرهابية المتطرفة وبين الدور الفاعل والواضح لبعض التيارات الإسلامية المعتدلة في تكريس الاستقرار والوقوف في وجه المشاريع المشبوهة.
حقيقة الأمر أنه لم يعد من باب التكهن أو الاحتمالات القول إن ما بعد عاصفة الحزم سيشهد انكفاء الحوثيين واندحار “الحلم” الإيراني هناك، فالقرار الدولي الأخير حول اليمن -والذي يهيئ الأرضية المناسبة للحل السياسي- واضح في شأن منع السلاح عن الحوثيين والقوات الموالية للرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، وهو واضح أيضا في مطالبة الانقلابيين الحوثيين بوقف استخدام العنف وسحب قواتهم من صنعاء وبقية المناطق.
وعلى ضوء هذه التطورات يمكن القول إن أمام إيران اليوم الفرصة الكبيرة كي تعيد النظر في سياساتها الإقليمية ومشروعها التوسعي باسم “الثورة الإسلامية” ورغبتها المستمرة في إشاعة نمطها الطائفي تحت شعار “نصرة المستضعفين”.
عليها أن تعود إلى حقيقة التاريخ والجغرافيا، كي تكون قوة ثقافية واقتصادية وسياسية تتكامل مع دول المنطقة على أسس من العدالة والمساواة، لا أن تستمر في مناكفاتها ومغامراتها لتكون قوة هيمنة وابتزاز، تنتصر للظالم على المظلوم كما تفعل في سوريا، وتدعم الفوضى على حساب النظام ومؤسسات الدولة كما في اليمن ولبنان.