أبريل 28, 2024 6:09 م
أخبار عاجلة
الرئيسية / الرأي / يا رب ما عدا ينقص حدا !!

يا رب ما عدا ينقص حدا !!

فؤاد مصطفى عزب
صباح رائع مضى في لبنان.. السماء فوقنا بالغة الهدوء وعظيمة الاتساع، أحب هذا النهار الذي بدأ، وأحب ما سيحدث فيه.. ذهبنا ثلاثتنا للجبل، للسوق العتيق.. كان الطقس باردا في الجبل كعادته في هذا الوقت من العام، كنت مسرورا أن أزور السوق القديم بعد كل ذلك الغياب الطويل وأجده جميلا كما هو في الماضي لم ينل الزمان من روحه لم يقلل من الحب الذي يطفح بغزارة من قلوب البائعين الطيبين.. لم يخل هذا السوق يوما منذ عرفته من ثلاثة أشياء العصافير والشجر والمقاهي شجر أخضر يعيش وسط هذه الأرض المغطاة بالحجر الأسمر يدعس عليه المارة فيزداد لمعانا ومقاهي عابقة بالذكرى، لا يوجد مكان في الأرض يضم مقاهي بجمال مقاهي السوق القديم، في هذا السوق أغصان الأشجار والحوانيت والمقاهي والباعة والمارة تدخل في كيان واحد وتصبح طبيعة واحدة، كأنني شاهدت هذا السوق في أزمنة أخرى ولم أغادره.. استقبلنا على باب السوق سيدة طاعنة في السن تركت الحياة بصماتها على وجهها وطريقتها في التعبير، فتحت ذراعيها عن آخرها كأنها تريد أن تلفنا الثلاثة بذراعيها، حركات حنان مخفوقة ببعد إنساني عميق، ارتفع صوتها مرحبة بنا «مرحبتين» القديم هنا يشع في كل مكان.. كانت على الحائط المقابل لنا صور حجرية سميكة لجبران، ونزار، وسعيد عقل، والرحبانية، وفيروز، ووديع الصافي، وأساطير عديدة من لبنان تواضع اللبنانيون في تخليدهم فنقشوا وجوههم بعمق على مدخل هذا السوق القديم ليصبحوا نافذة أبدية جميلة مفتوحة على التاريخ شيء من المكوث في كوة المطلق.. جلسنا في مقهى يطل على المسرح الروماني، من علو تشاهد كل الأطراف الأربعة للمربع الأخضر العميق «لبنان» مكوث خارج الوقت، وطمأنينة لا حدود لها، ونقاوة لا يعتريها ظل.. أي صفاء هو هذا الصفاء، لم يكن أحد في المقهى في هذا الوقت المبكر باستثناء سيدة مسنة تديره رحبت بنا بعينين هادئتين وابتسامة خافتة كأنها كانت تنتظر حضورنا، أو هكذا خيل لنا !! سألتها وهي تقدم أكواب عصير الجلاب بالصنوبر المثلج لكل منا عن عجوز هرم حاد الطباع كنت أزوره في آخر السوق، أبتاع منه أحذية يصنعها بيديه قالت لي بصوت سريع خافت «مات» ابنه الآن يقوم بعمله قلت لها كيف مات قالت لي وما الفرق يا بني المهم أن تعرف أنه لم يعد بيننا، فقدناه !! كان الجرس عندما يدق «دقة الحزن» نعرف أن أحدا مات فنسأل من مات !! ليس من موت كان خافيا علينا، وفقدنا بعد فترة السؤال عن كيف يموت الإنسان ؟ فذلك لا يطال الجوهر قل يا بني يا رب ما عدا ينقص حدا ! قلت معها ودمعة نافرة تصاحب حركة شفتي يا رب شعرت أن شيئا مهما في هذا السوق قد غاب وصفحة من تاريخه قد انطوت، سرنا مسافة طويلة على القدمين ننحدر نزولا.. الحوانيت هنا مبنية بالحجر الأسمر ذات الأبواب الخشبية المطلية باللون البني المحروق ومطرزة بالحديد الناحل، مضى الكثير من الوقت ونحن هنا في هذه الطمأنينة المطلقة، لحظة باهرة تنتشر فيها في كل شيء وتصبح كل شيء.. سألت «الأمريكية» التي معنا وهي تنظر إلى السماء بائعة الروائح النباتية وهي تعبئها لها في الأكياس لماذا الطيور كثيرة في سماء لبنان ؟ أجابتها بوجه يطفح بالصدق والحب دون أن تنظر إليها وهي تكمل تعبئة الأكياس.. لأن الأشجار لا تنام أبدا في لبنان كان عازف كمان فقير أعمى لا زال شكله يقيم في ردهة نفسي منحني العنق والظهر قليلا يعزف أغنية قديمة لعزيزة جلال «أنا باسأل النجوم كل ليلة عليك واكتب كلمة شوق بتناديك، وبحلفك تجيني يا حبيبي وتناديني وسعتها حتلاقيني باللحظة بين إيديك» مقطع من أغنية جميلة.. أشياء غريبة وأليفة معا لا تجدها إلا في هذا «اللبنان» العظيم، قد تكون هناك أشياء يومية كثيرة يختلف فيها اللبنانيون فيما بينهم، لكنني أعتقد أنهم شبه متفقين على شيء جوهري مشترك هو الرغبة في عيش حيوات في حياة واحدة كلا بطريقته.. ومر الزمان في لبنان.. الزمان يمر سريعا هنا حتى لو كنت تملك كل الوقت، حتى لو لم يكن لديك شيء تفعله.. لا أدري.. كيف مر الزمان.. كيف مضى الأسبوع كنهار.. هذه هي الحياة.. هذا هو لبنان.. بلد في حجم قمحة لكنه يضعك خارج الزمان..

 

شاهد أيضاً

كيف ستنعكس زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى كوريا على التبادل التجاري والعسكري؟

شدد خبير أمني ومحلل سياسي على أهمية زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى …