يحيى سقير
لو نُفيت إلى جزيرة سيشل التي كان يُنفى اليها أحرار العرب مطلع القرن العشرين في المحيط الهادي وخُيِّرت أن آخذ كتبًا معي لاخترت المعلقات.
فللمرة الألف ربما أقرأها، وكل مرة تأخذني “سرحة” طويلة من العجب والتساؤل عن الوحي الذي أوحى لقائليها هذا الكلام.
والمعلقات بحر لا ينضب فكرًا وفلسفة وصرفًا ونحوًا وفقه لغة؛ فقد كُتِبت فيها آلاف الرسائل الجامعية والمحاضرات.
وتشترك المعلقات السبع أو العشر، والعلق وهو المال النفيس، والتي قيل على سبيل إعلاء شأنها إنهم علقوها في الكعبة المشرّفة، في قواسم مشتركة منها الوقوف على الأطلال على مثال (قفا نبك-لامرئ القيس، ولخولة أطلال لطرفة، أمن أم أوفى دمنة لزهير، عفت الديار للبيد، هل غادر الشعراء لعنترة، وآذنتنا ببينها للحارث بن حلزة).
وهناك قاسم مشترك آخر، وهو وصف الرحلة التي كان يقوم بها الشاعر والتي هي موضع اهتمامي في هذا المقال. ويلاحظ أن الشاعر في عجلة من أمره ككل مسافر لذلك نراه يستعمل حرف العطف الفاء عندما يصف الأماكن التي زارها أو الأماكن التي كانت تسكنها ثم ترتحل عنها حبيبته، ومثال ذلك ما جاء في معلقة امرئ القيس: “بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة”، ولبيد حين يقول: “غولها فرجامها، فمدافع الريان”، وحين يقول عنترة عن منازل عبلة بالحزن والصمان فالمتثلم”، وقول الحارث: “فأدنى ديارها الخلصاء فالمحياة فالصفاح فأعناق فتاق فعاذب فالأبلاء”.
إن رحلة الشاعر أو وصفه لارتحال حبيبته (الظعن وهو الإرتحال) هو في الحقيقة وصفه لرحلة الحياة من ولادته حتى مماته.
وكأن الشاعر يتذكر رحلة الحياة هذه ويوثقها في فيلم وثائقي.
ولأنه في عجلة من أمره كالمسافر، ربما اعتقد الشاعر العربي أن حياته في هذه الدنيا مجرد وقفة قصيرة في محطة من محطات القطار، أما المحطة الأخيرة فهي في عالم آخر.
ولربما أن اعتقاد الشاعر العربي بأن الحياة مجرد محطة قصيرة هي السبب في أنه لم يكن يعبأ بها كثيرًا، إلا بكونها محطة عزّ، لأنه يريد الوصول إلى محطته النهائية بعد الموت.
ولربما يفسِّر ذلك عدم جزع الأبطال في مواجهة الموت ابتداء من عنترة ومرورًا بجول جمّال وفراس العجلوني ومعاذ الكساسبة.
إنه الموت الانتقائي الذي تعجز الفلسفة عن إدراكه.