د.عبدالله سافر الغامدي ـ جده.
ووهج الجمال يشع في مفاصلها ، وسطوع البهاء يطل من بين جنباتها ، ففي الليل تبرق أنوار قناديلها ، وفي النهار تشدو بلابلها، وتفوح بالعطر أزهارها.
حيث يحلــو المقام والقلب صافِ.
مهجتي في القرى وسكنى فؤادي
فــي الفيافي وداخل الأريافِ.
إنك إن نزلت إحدى قراها ؛ عانقت مهجتك حفيف الأشجار المتراقصة، والأغصان المتمايلة، والثمار البارزة، وانتعشت روحك بزمزمة الرعود، ولمع البروق، وشلالات الغيوم ، وقوافل الضباب، وهزيز الرياح.
ومع كل مداعبة ممطرة ؛ تتضاعف بهجتك، ويزداد ابتهاجك؛ بظهور أكمام الأزهار ، وتكاثر صفائح النباتات ، وانتشار شذى العشب المبتل بالمطر.
والا همال المطر لا من تهمل برضنا واحيا النبات.
ومما تشاهده في الريف الجبلي تهويمات الفراشات الملونة، وتحليقات الطيور المغردة، كما تسمع زقزقة العصافير، ونقنقة الدجاج، ونقيق الضفادع، أما أنغام الفلاح، ورغاء الشياه ، وثواج الضأن، وثغاء الماعز، وخوار البقر؛ فقد ولت وانتهت ، حيث طمرتها رمال التحضر ، وأدخنة الطفرة ، حتى تربية الطيور والماشية تناقصت ، وأعمال الزراعة والفلاحة تضاءلت وانكمشت.
كما هش للثدي الدرور وليد.
إن القرى الجبلية هي قرى عريقة؛ ضاربة في القدم، لاتزال تنبض بالمنازل القديمة الواقفة، والمتقاربة كتقارب قلوب سكانها، وهي التي بنيت من خامات البيئة؛ وبطريقة هندسية مرتبة ، فالهيكل من الصخور، والأسقف من الأشجار ، والدهان من القطران، والحياة بسيطة ، والمعيشة يسيرة.
لكن هذه البيوت تداعت أركانها، وسقطت جدرانها، وتهدمت أسقفها؛ ولم تعد نافعة ولا صالحة، مما دفع سكانها إلى البناء في الأودية، وعلى المدرجات الزراعية، وهي بأوضاعها الحالية ليست مرتبة ولا مخططة ، فمتى يقع تنظيمها ، ومن المسؤول عن تطويرها ؟!.
لا صارت أقدامه على سكة الدار.
وفي ريف الجبال؛ هناك خصال عديدة مميزة، وخصائص عدة متميزة؛ كالأشجار الكثيفة، والنباتات الغريبة، والأحجار المتلألئة، والصخور الضخمة، والأودية الحلزونية ، والدروب الملتوية ، والطرقات المتعرجة، والتي تراها منسقة بأدراج مرصوصة، وأحجار مزيونة، فالسائر فيها يمشي ـ غالباً ـ بانسيابية وسهولة .
بلسم الهم وترياق العليلِ.
كانت الحياة الريفية مدرسة في الرجولة، ومزرعة لتعليم البطولة، فقد ألبست ساكنها الشيمة، وعلمته المروءة، وزينته بالطهارة ، وجملته بالسماحة .
وكان أهلها مثل السنبلة الممتلئة؛ كتلة واحدة، ولحمة متماسكة، وقوة ضابطة، يحوطهم النسيج التعاوني ، ويضمهم الود الجماعي ، فالشعار الذي كانوا يرددونه: ما يحمـي جنـوب الرفيـق إلا رفيـقه.
والقريـة مـا كنهـا إلا بيـت واحـد.
وأما اليوم فلم يعد للقرية جاذبية، ولا لأوديتها قابلية ، فأغلب سكانها نزحوا منها ، واستوطنوا المدينة ، رحلوا من أجل الرزق، وبسبب الوظيفة، على الرغم من توفر بعض مرافق الحياة الحديثة.
لكن الحال بوجه عام لايزال مقموعاً بالتجاهل، ومحاصراً بالإهمال ، حيث لاتزال تعاني من مشاكلها القديمة؛ كالمسالك الوعرة، والطرق الضيقة، والمياه القليلة، والوظائف المعدومة .
فالعلاج في أحوالها يكمن في بناء خطط تنموية شاملة، وتنفيذ مشاريع تطويرية متكاملة؛ وبما يسهم في التوطين، والعودة للحياة الريفية.
فافتح ذراعيك للأريافِ واحتضنِ.
وإلى كل عاشق للسياحة الهانئة، والمعيشة الهادئة، والحياة الساكنة؛ عليك أن تظفر في إجازتك بقرية ريفية بسيطة، طيبة نقية، تسكن فيها بعيداً عن الترف والتوتر، والصخب والهدير، والتلوث والزحام، يكفيك من طول السنة صكة الباب ، وحبسة الدار، ومن سكن في الريف ما يعرف قهر، يغبطه في راحته حتى الوزير.