الرياض والقضية الفلسطينية .. استراتيجية النصرة والسلام
في فبراير (شباط) عام 1945، قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتتكشف خريطة جديدة للمنطقة، كان على رأسها دولة جديدة لإسرائيل في قلب المنطقة العربية «فلسطين»، مأوى وملاذ لليهود الهاربين من الآلة النازية الألمانية التي كانت تلاحقهم في كل مكان.. في ذلك الشهر، وفي حدث تاريخي، اجتمع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن – مؤسس المملكة العربية السعودية – مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في خليج السويس على ظهر السفينة الحربية «كوينسي»، لمناقشة تداعيات الحرب العالمية الثانية. كان روزفلت قلقا، يحمل بين طياته ملفا يريد أن يحشد له المناصرة والتأييد – كما يروي الكاتب الأميركي ويليام ايدي، في كتابه «القمة الأميركية – السعودية الأولى: القمة السرية بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس روزفلت 1945». قال روزفلت للملك عبد العزيز: «إننا نحن الحلفاء نتطلع إلى إنقاذ البقية الباقية من اليهود في وسط أوروبا الذين يذوقون رعبا لا يوصف على يد النازيين من طرد وتعذيب وهدم لمنازلهم وقتلهم عمدا، واليهود لديهم رغبة عاطفية في سكنى فلسطين».
غضب الملك عبد العزيز وتغير وجهه وتجهم، والتفت إلى روزفلت، وقال: «امنحوا أرض ألمانيا لليهود، فهم الذين اضطهدوهم.. أي شر ألحقه العرب بيهود أوروبا؟ إنهم المسيحيون الألمان سرقوا أموالهم وأرواحهم، إذن فليدفع الألمان الثمن، لماذا ندفعه نحن العرب؟».
كانت هذه القمة التاريخية ابتداء لانفصال حاد ومواجهة مستمرة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، فمنذ ذلك التاريخ والتحركات الأميركية والبريطانية تحث الخطى من أجل إعلان دولة لليهود في أرض فلسطين. ففي 12 أبريل (نيسان) 1947 اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على طلب من الحكومة البريطانية، وبتأييد أميركي، للبحث في مسألة فلسطين، وتم تشكيل لجنة من إحدى عشرة دولة لهذا الغرض، وانتهت اللجنة إلى تقرير رأت فيه الأغلبية تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، بينما رأت الأقلية إقامة دولة اتحادية مع وجود حكومتين مستقلتين، إحداهما للعرب والأخرى لليهود، وأن تكون القدس عاصمة لهذه الدولة، وصودق على صدور القرار في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، بتأييد 33 دولة، ومعارضة 13 دولة، مع امتناع عشر دول عن التصويت منها بريطانيا. وفي تلك المناقشات العامة حول القرار هب الأمير فيصل بن عبد العزيز، الذي حضر المناقشات مندوبا عن السعودية، واستهل كلمته بتوجيه النقد العنيف إلى أعضاء الجمعية العامة، وشدد على سياسة الولايات المتحدة إزاء فلسطين بقوله: «لقد أتينا إلى الجمعية العامة يملؤنا الأمل بأن الدول الكبرى والصغرى على السواء ستوجه قصارى جهدها لرفع المستوى الأخلاقي. لقد أتينا هنا يملؤنا الأمل بأن جميع الأمم ستحترم وتؤكد حقوق الإنسان والعدالة، وبأن هذه المنظمة ستكون أداة لتحقيق الأمن والسلم الدولي، وفي الوقت نفسه كان يحدونا الأمل بأن المنظمة ستكون عبارة عن أساس قوي لتحقيق التفاهم المشترك بين جميع الشعوب. لقد تعهدنا أمام الله والتاريخ بأن ننفذ الميثاق بإخلاص وحسن نية، وبذلك نحترم حقوق الإنسان ونصد كل عدوان، ولكن للأسف فإن قرار اليوم قد هدم كل المواثيق التي سبقته».
يؤكد الفيصل أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا على بعض الدول، فيقول مكملا كلمته «لقد شعرنا مثلما شعر الآخرون بالضغط الذي جرى على عدة مندوبين في هذه المنظمة من قبل بعض الدول الكبرى، وذلك لكي يكون تصويتهم في صالح مشروع التقسيم». ويعلن الفيصل في ختام تصريحه بكل جرأة رفض بلاده لذلك القرار، فيقول: «ولهذه الأسباب فإن حكومة المملكة العربية السعودية تود أن تسجل في هذه المناسبة التاريخية أنها لا تعتبر نفسها ملزمة بالقرار الذي تبنته الجمعية العامة اليوم، بالإضافة إلى ذلك فإنها تحتفظ لنفسها بكامل الحق في حرية التصرف بالطريقة التي تراها تتناسب مع مبادئ الحق والعدالة. إن حكومتي تلقي كامل المسؤولية على الأطراف التي أعاقت كل وسائل التعاون والتفاهم».
النهج السعودي تجاه القضية الفلسطينية
يقوم النهج السعودي تجاه قضية فلسطين على محاور متعددة.. أبرزها، الإيمان ببعد القضية العربي والإسلامي والدولي، والتركيز على الحلول والتفاهمات المشتركة مع القوى العربية والدولية للوصول إلى حل عادل دائم للقضية الفلسطينية.
ومنذ البداية كانت السعودية تقف إلى جانب الفلسطينيين، لكنها تؤكد على أن العنصر الفلسطيني هو العنصر الرئيس في المواجهة مع تزويده بالحد الأقصى من كل أنواع الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي. كانت هذه هي نظرة الملك عبد العزيز، والتي تجسدت بعد ذلك في السياسة السعودية تجاه القضية الفلسطينية، حيث تبنت مبدأ عدم التدخل في شؤون القيادة الفلسطينية ودعمها في ما تصل إليه من قرارات ومواقف مع ضمان مراعاتها للبعد الإسلامي لمسألة القدس. هذا المبدأ الأساسي هو الذي حكم علاقة السعودية بالقضية الفلسطينية، كما يقرر ذلك الباحث والمحلل السعودي عثمان الرواف، الذي بنى علاقة السعودية بالقضية الفلسطينية على عدة أعمدة، من أهمها:
– أولا: الدعم المالي الذي التزمت السعودية بتقديمه لمنظمة التحرير الفلسطينية ولدول المواجهة العربية، ويأتي الدعم المالي السعودي من مصادر رسمية وشعبية ويستخدم لأغراض عسكرية ومدنية وسياسية.
– ثانيا: التأكيد على البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية: فمنذ وقوع حادث إحراق المسجد الأقصى سعت المملكة إلى إبراز البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، إضافة إلى بعديها الفلسطيني والعربي، وهو ما أضاف للقضية أسس قوة وعناصر دعم جديدة لم تكن متوافرة في السابق.
– ثالثا: التحرك الدولي، انطلاقا من أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية البترولية العالمية سعت المملكة إلى لعب دور دولي كبير لدعم القضية الفلسطينية، عبر التداخل مع رؤساء الولايات المتحدة، والتأثير خلال اجتماعات الأمم المتحدة لضمان حقوق الفلسطينيين، ونصرة قضيتهم.
شارك الجيش السعودي في حرب فلسطين عام 1948 بكتيبتين قوامهما ثلاثة آلاف مقاتل
رابعا: الوساطة العربية، حيث مرت القضية الفلسطينية بأوقات عصيبة تعلقت بمشاكل السياسة العربية وارتبطت بشكل خاص بظروف الحرب الأهلية في لبنان وباختلاف مواقف القيادة الفلسطينية أحيانا مع مواقف قيادات دول المواجهة، حيث وصلت هذه الاختلافات والمشاكل أحيانا إلى درجة كبيرة من الحدة والتأزم، وأدت إلى وجود توتر كبير بين دول المواجهة أو بين إحداها من طرف والقيادة الفلسطينية من طرف آخر، وبالشكل الذي هدد بترك آثار سلبية كبيرة على القضية الفلسطينية. ولقد كانت المملكة دائما تبذل مساعيها لاحتواء هذه الاختلافات، ولتلافي التوتر بين الأشقاء، ولعبت السعودية في هذا الخصوص دورا مهما في الوساطة بين الأردن والقيادة الفلسطينية في عام 1970، كما سعت لتقريب وجهات نظر مصر وسوريا وكذلك الأردن وسوريا في الفترة التي سبقت وأعقبت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وغيرها من الأحداث.
الجيش السعودي في حرب فلسطين 1948
على الرغم من الموقف من السعودي الصريح بأن العنصر الفلسطيني هو الذي يجب أن يدير المواجهة بنفسه، مع إمداده ودعمه بالمدد المالي والسياسي واللوجيستي، فإن أبناء السعودية قد جادوا بأنفسهم وأرواحهم في مواجهات مباشرة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في حرب فلسطين عام 1948.
فحين اندلعت المعارك الطاحنة بين الثوار الفلسطينيين والإسرائيليين بعد صدور قرار التقسيم بخمسة أشهر، وصل وفد عربي إلى المملكة ضم كلا من عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية، ومفتي فلسطين أمين الحسيني، ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان، وجميل مردم بك رئيس وزراء سوريا، وعرضوا على الملك عبد العزيز خلاصة الموقف في فلسطين – وفقا لدراسة تاريخية أعدها الباحثان رياض شاهين، وعبد الحميد الفراني في مؤتمر بجامعة نابلس عن موقف السعودية من القضية الفلسطينية. وقد استغرقت الاجتماعات بين الملك والوفد أكثر من أسبوع، وكان رأي الملك عدم اشتراك الدول العربية في حرب فلسطين، وكان من رأيه أيضا تسليح أهالي فلسطين، ومساعدتهم ماديا للدفاع عن بلادهم. ومع احتدام الجدال، وإصرار الجميع على خوض الحرب ودخول الجيوش العربية إلى فلسطين، قدم الملك عبد العزيز اقتراحا آخر، يقضي بأن يقوم الفلسطينيون بثورة عارمة من الداخل، وعلى العرب من كل جانب أن يزودوهم بالعدة والعتاد، إلى جانب المتطوعين الذين يشدون أزرهم، وبدأ الملك عبد العزيز بنفسه فقال لهم: «ومن الآن أضع تحت أمرهم خمسين ألف متطوع»، لكن غلبة الرأي كانت في النهاية للاقتراح القائل بضرورة الحرب الخاطفة.
كان الملك عبد العزيز يعتقد أن الوسيلة الوحيدة لمنع قيام دولة عبرية هي تنظيم حرب عصابات ضد الكتائب اليهودية، وانسجاما مع هذه النظرة أصدر أوامره إلى رؤساء قبائل نجد وما حولها بتقديم متطوعين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخمسين سنة، وإرسالهم إلى الجوف – شمال غربي المملكة – كي يعمل على إيفادهم لنجدة الفلسطينيين.
كانت القوات السعودية والتي بلغ عددها نحو ثلاثة آلاف مقاتل من مختلف الرتب العسكرية موزعة على كتيبتين كل منهما ألف وخمسمائة مقاتل، وقسمت الكتيبة الواحدة إلى ثلاث سرايا مقاتلة رئيسة، وكل سرية مؤلفة من ثلاثة فصائل مشاة، وفصيل رشاش، وثلاثة فصائل ومصفحات، وكانت السرية الواحدة تضم نحو 220 مقاتلا، وقد وزعت السرايا على النحو التالي:
تؤمن السعودية بأن العنصر الفلسطيني هو العنصر الرئيس في المواجهة المباشرة مع تزويده بالحد الأقصى من الدعم
– السرية الأولى: بقيادة الملازم عبد الله العيسى، ونائبه الملازم إبراهيم محمد المالك.
– السرية الثانية: بقيادة النقيب حسن ناظر، ونائبه الملازم على قباني.
– السرية الثالثة: بقيادة الملازم أول محمد الهنيدي، ونائبه الملازم صالح النصيان.
كانت تلك الدفعة الأولى من الجيش السعودي إلى جانب القوات المصرية، أما الدفعة الثانية التي شكلتها الكتيبة الثانية فقد وزعت على النحو الآتي:
– السرية الأولى: بقيادة الملازم أول محمد سكر.
– السرية الثانية: بقيادة الملازم ناصر الموسى.
– السرية الثالثة: بقيادة الملازم حمزة عجلان.
– سرية مدرعات: بقيادة الملازم رشيد البلاع.
وفقا لما روته عائشة المسند في كتابها «المملكة العربية السعودية وقضية فلسطين».
وكان القائد العام للقوات السعودية العقيد سعيد الكردي ونائبه الرائد عبد الله بن نامي، وبعد انسحاب القوتين المصرية والسعودية من غزة إلى سيناء في أعقاب الهدنة الأولى في 29 مايو (أيار) 1948 عُين العميد إبراهيم الطاسان، يساعده عدد من الضباط منهم الملازم رشيد البلاع، واليوزباشي تركي الراشد، والصاغ أمين شاكر، وعبد الهادي محمود، والدكتور أحمد شلبي.
غادرت القوات السعودية الطائف في 21 مايو 1948 في طريقها إلى جدة، وعلى متن طائرات سعودية غادرت هذه القوات مدينة جدة بعد أن ودعها وزير الدفاع الأمير منصور بن عبد العزيز وجماهير غفيرة من الشعب السعودي إلى القاهرة، فأنزلت قواتها خفيفة التسليح في ميناء «فاروق»، أما الأسلحة الثقيلة والقوات المدرعة والذخائر والتجهيزات الاحتياطية فقد أرسلت بحرا فأنزلت في ميناء السويس، وبعد أن تجمعت القوات السعودية – المصرية في العريش دخلت فلسطين عن طريق رفح، وواصلت سيرها إلى غزة، وعند وصولها غزة أشغلت تلة المنطار المقابلة للمستعمرات اليهودية الشرقية، وبعد شغلها المواقع شاغلت العدو الذي كان يرابط في تلك المستعمرات، وقامت بدوريات مقاتلة بين تلك المستعمرات، كما قامت بنسف أنابيب المياه وعرقلة سير القوافل التي كانت تمون تلك المستعمرات، كما أنها اشتركت في خطوط القتال الأمامية إلى جانب القوات المصرية، وشاركت في الهجوم على «بيت عَفا»، واستمرت المعركة سبعة أيام متوالية استخدمت فيها القوات السعودية إلى جانب المصرية عموم الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وفي معركة «بئيرون يتسحاق» شارك الجنود السعوديون باقتحامهم الحصون، وحقول الألغام والأسلاك الشائكة.
كان من نتائج القتال أن استطاعت القوات المصرية السعودية استرداد الشريط الساحلي المحاذي لساحل البحر الأبيض من رفح على الحدود المصرية جنوبا حتى مدينة أسدود شمالا، مرورا بدير البلح وخان يونس وغزة ودير سنيد والمجدل، وظل الحال على ذلك حتى عُقدت الهدنة الأولى بين العرب وإسرائيل في 29 مايو 1948. في هذه الأثناء كانت الهيئة العربية العليا في فلسطين قد طلبت من الجامعة العربية إعلان قيام دولة عربية فلسطينية عقب إعلان نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، إلا أن هذا الطلب لم ينظر فيه في حينه، ولكن قبل استئناف القتال قررت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية إقامة إدارة مدنية فلسطينية مؤقتة في المناطق التي تسيطر عليها الجيوش العربية، غير أن هذا المشروع بقي اسميا ولم ينفذ في حينه.
استراتيجية سلاح النفط
تطورت نوعية المواجهة مع إسرائيل واحتد الموقف السعودي من العدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي الفلسطينية، وحين تولى الملك فيصل مقاليد الحكم في المملكة، وهو من وجه انتقادات لاذعة للجمعية العمومية في الأمم المتحدة تجاه موقفها من إسرائيل، أذاع راديو المملكة العربية السعودية في الثامن والعشرين من شهر مارس (آذار) 1965 تصريحا للملك فيصل بن عبد العزيز جاء فيه: «إننا نعتبر قضية فلسطين قضيتنا وقضية العرب الأولى، وإن فلسطين بالنسبة لنا أغلى من البترول كسلاح في المعركة إذا دعت الضرورة لذلك، وإن الشعب الفلسطيني لا بد أن يعود إلى وطنه حتى ولو كلفنا ذلك أرواحنا جميعا».
كانت السعودية حذرة في استخدام سلاح النفط كأداة في المواجهة، نظرا لتداعياته الاقتصادية الكبيرة على المنطقة وعلى المملكة، ولكن عندما نشبت حرب يونيو (حزيران) 1967، واحتلت إسرائيل الأرض الفلسطينية كلها، وسيناء والجولان، وجزءا من لبنان، كانت هناك دعوات لقطع النفط وأخرى لاستمرار تدفقه مع استخدام جزء من عائداته لدعم الصمود العربي وتقوية الجيوش العربية لتحرير الأراضي العربية المحتلة. وقد حسم الملك فيصل هذا الأمر في مؤتمر قمة الخرطوم الذي عقد في أغسطس (آب) 1967، وتقرر فيه دفع مبلغ 135 مليون جنيه إسترليني سنويا، التزمت المملكة بدفع مبلغ 50 مليون جنيه إسترليني منها، والتزمت الكويت بدفع مبلغ 55 مليون جنيه إسترليني، وليبيا 30 مليون جنيه إسترليني.
وظلت سياسة المملكة ثابتة منذ حرب يونيو 1967 حتى حرب أكتوبر 1973 تجاه مسألة الاستخدام الإيجابي للنفط في تنفيذ التزاماتها بدعم دول الصمود من عائدات النفط.
لكن عندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973 وضع الملك فيصل الجيش السعودي على أهبة الاستعداد لمواجهة ظروف المعركة، وأرسل رسالة عاجلة مع السيد عمر السقاف وزير الدولة للشؤون الخارجية، في 10 أكتوبر 1973، إلى كل من دمشق والقاهرة، حيث أعرب السقاف للبلدين الشقيقين عن وقوف السعودية بكل إمكاناتها إلى جانب الأشقاء العرب.
استمرت السياسة الأميركية في تجاهل نداءات العرب، وقامت علنا بدعم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. ولما أقامت جسرا جويا لتزويد إسرائيل بالسلاح في حرب 1973 عمدت السعودية وسائر البلاد العربية إلى اتخاذ إجراءات أكثر حزما، فأعلنت البلاد العربية تباعا وقف ضخ النفط إلى الولايات المتحدة، ومن ثم إلى هولندا التي اتخذت موقفا مواليا لإسرائيل. كما فرض حظر تصدير النفط الخام إلى جميع معامل التكرير التي تصدر مشتقات النفط إلى الولايات المتحدة الأميركية، أو بيعها إلى الأسطول البحري الحربي الأميركي.
الملك عبد العزيز قال للرئيس الأميركي: «أعطوا ألمانيا لليهود.. لماذا يدفع العرب ثمن أخطائكم؟»
كانت المملكة قد أعلنت وقف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأميركية، مبررة ذلك بازدياد الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. واستشاطت أميركا غضبا من هذه الخطوة الجريئة التي لم تكن تتوقعها، والتي أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، كما أدت إلى إرباك الاقتصاد الرأسمالي الغربي عموما، ذلك الاقتصاد الذي يعتمد على النفط بصورة أساسية في تحريك عجلته على كل المستويات، وفي مختلف القطاعات الصناعية والاقتصادية.
تحركت أميركا، وأرسلت وزير خارجيتها هنري كيسنجر لمقابلة الملك في 8 نوفمبر 1973 ليتباحث في ثلاث نقاط أساسية: النفط، والقدس، وشؤون فلسطين والفلسطينيين. وأكدت مصادر صحافية أن الملك فيصل أصر على عروبة القدس.
ارتفعت لهجة التحدي والتهديد بين الولايات المتحدة الأميركية والملك فيصل إلى الدرجة التي دعت الملك فيصل للرد على هنري كيسنجر بعنف قائلا: «لن نرفع الحظر على شحن النفط إلى الولايات المتحدة، ولن نعيد إنتاجنا إلى ما كان عليه سابقا، ما لم تنته مفاوضات السلام نهاية ناجحة يتحقق على أثرها الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني». وشدد الملك فيصل على ضرورة إعادة القدس العربية إلى العرب ورفض فكرة تدويل الأماكن المقدسة.
مبادرات السلام
لم تتوقف مساعي المملكة الدائبة من أجل حل القضية الفلسطينية عبر كل الأصعدة، ومن أبرز ذلك تقديمها لمبادرات سلام تسعى لرأب الصدع، وتضمن حقوق الفلسطينيين، كان من أبرزها ما قدمه الملك فهد بن عبد العزيز في مشروعه للسلام الذي تبناه وأقره مؤتمر القمة العربية الثاني عشر، الذي عقد في مدينة فاس المغربية في سبتمبر (أيلول) 1982. وقدم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – عندما كان وليا للعهد – تصورا للتسوية الشاملة العادلة للقضية الفلسطينية من ثمانية مبادئ عرف باسم «مشروع الأمير عبد الله بن عبد العزيز»، قدم لمؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، ولاقت هذه المقترحات قبولا عربيا ودوليا وتبنتها القمة وأكدتها القمم العربية اللاحقة خاصة قمة الرياض، وأضحت مبادرة سلام عربية. كما اقترح في المؤتمر العربي الذي عقد في القاهرة في أكتوبر من عام 2000 إنشاء صندوق يحمل اسم «انتفاضة القدس» برأس مال قدره مائتا مليون دولار يخصص للإنفاق على أسر الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في الانتفاضة، وإنشاء صندوق آخر يحمل اسم صندوق الأقصى يخصص له ثمانمائة مليون دولار لتمويل مشاريع تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس المحتلة والحيلولة دون طمسها.
وإذا كانت السعودية قد تقدمت مؤخرا، مطلع شهر أغسطس 2014، بدعم مالي قدره 500 مليون دولار لإعمار غزة بعد الدمار الذي لحقها جراء القصف الإسرائيلي، فإن هذا كان نهجا دائما وثابتا اتخذته المملكة في دعم القضية الفلسطينية، ومساندة أبناء شعبها. ففي مؤتمر القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية (قمة التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة) التي عقدت في الكويت في شهر يناير (كانون الثاني) عام 2009، أعلن الملك عبد الله عن تقديم 1000 مليون دولار أيضا لإعادة إعمار غزة، مشددا على أهمية وحدة الفلسطينيين، قائلا: «وتقضي الأمانة هنا أن نقول لأشقائنا الفلسطينيين إن فرقتهم أخطر على قضيتهم من عدوان إسرائيل، وأذكرهم بأن الله عز وجل ربط النصر بالوحدة وربط الهزيمة بالخلاف».
لكن الخلاف بين الفلسطينيين ما زال مستمرا، وحين استشرى خطره واستفحل بين حركتي فتح وحماس سارع خادم الحرمين الشريفين بتوجيه دعوة لقادة الشعب الفلسطيني لعقد لقاء في مكة المكرمة في فبراير 2007، لبحث أمور الخلاف بينهم بكل حيادية ودون تدخل من أي طرف، للوصول إلى حلول عاجلة لما يجري على الساحة الفلسطينية، وتوجت تلك الاجتماعات بـ«اتفاق مكة»، لكن قادة الفصائل الذي وقعوا هذا الاتفاق بجوار بيت الله الحرام ما لبثوا أن عادوا إلى روح الفرقة والاقتتال والخصام، وازدادت آلام الفلسطينيين، بين دولة محتلة، وأحزاب سياسية متناحرة.
بعد هذه الإشارات المقتبسة من تاريخ طويل نهجته المملكة تجاه القضية الفلسطينية، يتأكد أن تلك الأصوات الجائرة التي تسعى إلى إنكار الجهود السعودية تجاه قضية فلسطين ما هي إلا أصوات عاجزة آثمة – كما يقرر ذلك الأمير تركي الفيصل – فالسعودية «هي المؤيد والداعم الأساسي للشعب الفلسطيني، فهي تنطلق في ذلك من واجب ديني وإنساني وعربي، إيمانا منها بعدالة القضية الفلسطينية، ورفضا للظلم الفادح الواقع على كاهل الفلسطينيين».